**الفصل الأول: الظلام ينتشر** كان الهواء في غرفة المعيشة ثقيلاً، مشبعاً بالصمت الذي يتخلله أنين مكتوم. بعد أربع وعشرين ساعة من اختفاء سامي، الابن الأصغر لعائلة أبو الخير، بدت الأيام وكأنها أصبحت شهوراً. الغرفة، التي كانت قبل يوم مجرد مكان للنوم ومشاهدة التلفاز، تحولت إلى مركز قيادة لحرب خاسرة، ساحة معركة ضد فراغ مرعب. جدران المنزل، التي شهدت ضحكات سامي الرنانة قبل فترة وجيزة، بدت الآن وكأنها تضغط على كل من فيها، تبتلع أصواتهم وتخنق أنفاسهم. جلست ليلى، الأم، على طرف الأريكة، عيناها محمرتان ومنتفختان من البكاء الذي لم يتوقف، أو ربما من الإرهاق الشديد الذي استنزف كل قطرة حياة فيها. كانت تمسك بصورة مبعثرة الأطراف لسامي، يبتسم فيها بأسنان مفقودة، يداه الصغيرتان تمسكان بلعبة سيارة حمراء. كل تفصيل في الصورة كان كطعنة جديدة في قلبها. كان من المفترض أن تكون اليوم هي من تعد له طعامه المفضل، من تزيّن غرفته استعداداً لعودته من المدرسة. لكن المدرسة كانت قد انتهت، ولم يعد. بجانبها، جلس أحمد، الأب، في كرسي بذراعين، ظهره محدب، ورأسه بين يديه. كان يرتدي نفس الملابس التي كان يرتديها بالأمس، فقد فقد الشعور بالوقت أو الرغبة في الاهتمام بأي شيء سوى تلك الحقيقة الباردة: ابنه ليس هنا. حاول جاهداً أن يبدو قوياً، أن يمنح ليلى بصيص أمل، لكن الهزيمة كانت ترسم ملامح وجهه القاسية. لقد استنفدوا كل الأماكن القريبة، كل الأزقة، كل الأماكن التي قد يلعب فيها طفل في عمر سامي. لقد سألوا كل شخص يعرفونه، وكل شخص لم يعرفوه. والنتيجة كانت مجرد صمت مروع. في زاوية الغرفة، جلس عمر، الأخ الأكبر لسامي، ذو الأربعة عشر عاماً، واضعاً سماعات الرأس على أذنيه. كان يحاول أن يغرق نفسه في موسيقى صاخبة، لكن العالم الخارجي كان يصرخ بأعلى منه. لم يكن يتوقف عن التفكير في اللحظة الأخيرة التي رأى فيها سامي، قبل ساعات قليلة من اختفائه. كان يلعب أمام المنزل، يركض خلف فراشة صفراء. لم يكن عمر قد أدرك حينها أهمية تلك اللحظة، أهمية النظرة الأخيرة. الآن، كل ثانية تمر كانت تزيد من شعوره بالذنب. كان عليه أن يكون أقرب، أن يراقبه أكثر. "ماذا سنفعل الآن؟" كان صوت ليلى أشبه بهمهمة، بالكاد مسموع. كسرت الكلمات حاجز الصمت المطبق، وكأنها تذكير مؤلم بأن الوقت يمر، وأن الأمل يتلاشى. نظر أحمد إلى الأعلى، عينيه تائهتين. "سنستمر في البحث، ليلى. هذا كل ما يمكننا فعله." كان صوته أجشاً، خالياً من أي حيوية. "البحث؟" ردت ليلى، ارتفعت نبرتها قليلاً، تحمل مزيجاً من اليأس والغضب. "لقد بحثنا في كل مكان! لقد جئنا بجميع الأشخاص الذين نعرفهم، وجميع الأشخاص الذين لا نعرفهم. هل تعتقد أن هناك مكاناً آخر لم نبحث فيه؟" "لا أعرف!" انفجر أحمد، وهو ينهض من كرسيه. "ولكن البقاء هنا، في هذه الغرفة، لا فائدة منه!" صوته ارتفع، وانعكاس الإحباط الشديد الذي كان يعصف به بدا واضحاً. "يجب أن نخرج، أن نستمر في التحرك. ربما لم ننتبه لشيء ما." "وهل ستجد سامي بالركض في الشوارع بلا هدف؟" سألت ليلى، ودموعها بدأت تتساقط مرة أخرى. "يجب أن نفكر بشكل منهجي. أن نراجع كل شيء." "مراجعة ماذا؟" سأل أحمد بسخرية مريرة. "لقد راجعنا كل شيء مليون مرة. لقد سألنا الجيران، وسألنا أصدقاء سامي، وسألنا كل شخص مر بالقرب من منزلنا." "ليس كل شخص،" قالت ليلى بصوت هادئ، ولكنه يحمل تصميماً جديداً. "لم نراجع كاميرات المراقبة." توقف أحمد، ثم هز رأسه. "الكاميرات؟ من لديه كاميرات مراقبة في هذه المنطقة؟ لا أعتقد أن أي شخص يهتم بذلك." "أبو خالد لديه كاميرا أمام منزله،" قالت ليلى. "وأبو علي، أعتقد أنه اشترى واحدة أيضاً. ربما رأوا شيئاً، حتى لو كان بسيطاً. ربما رأوا سامي يتحدث إلى شخص ما، أو يذهب في اتجاه معين." بدا التفكير للحظة على وجه أحمد. كان لديهما كاميرات مراقبة. فكرة بدت واهية، لكنها كانت الشيء الوحيد الجديد الذي طرحته ليلى. "حسناً،" قال بعد فترة صمت، "ولكن كيف سنصل إلى هناك؟ لن يقول لنا أحد أن نرى تسجيلاتهم الخاصة. قد يكون الأمر حساساً." "سنذهب إليهم،" قالت ليلى بحزم. "سأذهب بنفسي إذا لزم الأمر. سأطلب المساعدة من الجميع." "أنتِ متعبة جداً، ليلى،" قال أحمد. "دعيني أنا أذهب. سأتحدث معهم." "لا،" قالت ليلى، وبدأت تنهض من الأريكة، على الرغم من ارتجاف جسدها. "يجب أن نكون معاً في هذا. كلانا. يجب أن نتحرك. ولا يزال هناك الكثير من الأماكن التي لم نذهب إليها." "مثل ماذا؟" سأل أحمد، وقد بدأ اليأس يعود ليغطي وجهه. "الغابات القريبة،" قالت ليلى، مشيرة إلى النافذة. "لقد استبعدناها في البداية لأنها تبدو بعيدة عن مسار سامي المعتاد، ولكن ربما..." "الغابات؟" قاطعها أحمد، وقد شعر وكأنها تزيد من معاناته. "هل تريدين أن نذهب إلى الغابات في الظلام؟ هذا جنون! علينا أن نركز على المناطق المأهولة، على الأماكن التي من المحتمل أن يذهب إليها. توسيع نطاق البحث إلى الغابات الآن سيكون مضيعة للوقت والجهد." "ولكن ماذا لو؟" بدأت ليلى، لكن أحمد قاطعها مرة أخرى. "لا توجد 'ماذا لو' الآن، ليلى. يجب أن نكون واقعيين. إذا ذهبنا إلى الغابات، فلن نجد شيئاً سوى المزيد من الإحباط." "والبحث في الشوارع، هل هذا واقعي؟" ردت ليلى، وارتفعت نبرتها مرة أخرى. "لقد مررنا بهذه الشوارع عشرات المرات. إننا نتبع نفس الروتين. لا شيء يتغير." "الروتين هو ما نحتاجه الآن،" قال أحمد بصرامة. "البحث المستمر هو ما سيجلب لنا سامي. سأذهب إلى أبو خالد وأبو علي، وسأطلب منهم النظر في كاميراتهم. وفي الوقت نفسه، سنقوم بتوسيع نطاق البحث الميداني. سأجمع بعض الشباب، وسنذهب أبعد مما ذهبنا إليه بالأمس." "أنا معك،" قال عمر، الذي نزع سماعات الرأس فجأة. كان صوته خافتاً، ولكنه كان حاسماً. "سأذهب معك. سأبحث في أي مكان." نظر إليه أحمد، ثم إلى ليلى. لقد كانا يقفان على حافة الهاوية، كل منهما يحاول أن يسحب الآخر إلى بر الأمان، لكن كليهما كانا غارقين في بحر من القلق. "حسناً،" قال أحمد أخيراً، محاولاً لملمة شتات الأفكار. "سنقسم المهام. ليلى، ستبقين هنا، تتواصلين مع أي شخص قد يكون لديه معلومات. عمر، ستأتي معي. سأذهب إلى أبو خالد وأبو علي، ثم سنذهب إلى المنطقة الغربية من الحي، حيث لم نذهب من قبل." "ولكن ماذا عن الغابات؟" سألت ليلى، وهي تنظر إليه بعينين مليئتين بالأمل. "سأفكر في ذلك،" قال أحمد، دون أن يمنحها وعداً حقيقياً. "ولكن في الوقت الحالي، علينا أن نركز على ما هو ممكن. لا يمكننا أن نضيع طاقتنا في أفكار قد لا تؤدي إلى شيء." ارتفعت يد ليلى، ومسحت دموعها. "ولكن يا أحمد، لقد فقدنا أكثر من 24 ساعة. يجب أن نكون مستعدين لفعل أي شيء. أي شيء على الإطلاق." "وأنا أفعل ذلك، ليلى،" قال أحمد، وهو يمد يده ليضعها على كتفها. "لكن يجب أن نكون أذكياء في ما نفعله. لا يمكننا أن ندع اليأس يقودنا إلى قرارات خاطئة." استدار أحمد نحو عمر، وأشار له بالتحرك. "هيا يا بني. لدينا عمل لنقوم به." وقف عمر، وشعر بثقل مسؤولية جديدة على كتفيه. لم يكن يعلم ما إذا كان هذا هو القرار الصحيح، أو ما إذا كان سيجلب أي نتيجة. كل ما كان يعلمه هو أنهم لا يستطيعون الاستمرار في الانتظار. نظرت ليلى إلى الباب، ثم عادت لتنظر إلى صورة سامي. كان صمت الغرفة عائداً، ولكن هذه المرة، كان مشوباً ببعض النشاط. لقد اتفقوا على خطة، مهما كانت هشة. ولكن في أعماقها، كانت تعلم أن هذه الخطة قد لا تكون كافية. الخوف كان ينمو، يمتد مثل ظل طويل في قلبها. كانت الشمس قد بدأت تغرب، والظلام كان يزحف ببطء، يغطي المدينة، ويغطي معهم كل أمل.

Comments (0)

No comments yet. Be the first to share your thoughts!

Sign In

Please sign in to continue.